مدونة حلمي العلق

التأمل والتقرب لله

التقرب لله

لو أراد أحدنا أن يتقرب إلى رجل ذو شأن ومكانة ورفعه فقد يضرب من أجله المسافات حتى يصل إلى جنابه وقربه، أما حين نريد الاقتراب من الله عز وجل وهو سيد السادات وملك الملوك،فلا نحتاج للخروج من بيوتنا، هو أقرب إلينا من حبل الوريد.

إذا تقربنا من أحد لأنه يملك الجاه والمال والسلطة، فإننا نريد من ذلك القرب أن نحظى بشيء من تلك الإمكانيات وأن نفوز بشيء من ذلك الجاه أو ما أشبه، حسب مكانة ذلك الرجل، أما الله عز وجل وهو خالق السماوات والأرض ومالكهما وهو فالق الحب والنوى، فإننا حين نقترب منه نحصل على العزة والكرامة والغنى والفوز في الدنيا والآخرة.

إننا نقترب من الآخرة يومًا بعد يوم، وخطوة بعد خطوة، وحياة الإنسان قصيرة وسريعة جدًا في هذه الدنيا، لذا فالإنسان بحاجة إلى سرعة في التنفيذ قبل فوات الأوان. يجب على الإنسان أن يحدد مصيره جيدًا، هل يريد أن يؤمن أم يريد أن يكفر.

الآيات

الإيمان بالله مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتصديق الآيات، فلأنه كلامه يجب أن نصدقه ونثق فيه. على كل واحد منا أن يسأل نفسه، هل نحن مصدقون بما تقصه آيات الكتاب المنزل من عند الله؟ الكتاب المنزل من عند الله رسول، و الارتياب فيه هو حالةٌ من عدم الثقة، وتظهر أعراض تلك الحالة في تصرفات المؤمن فهي المصداق الحقيقي للتصديق. ما يثبت حقيقة التصديق هو قوة التعامل مع الكتاب، وحتى نسير في اتجاه تصديق الكتاب لابد وأن نأخذ كل حرف فيه بتصديق تام وبكل قوة، فالله عز وجل حين يصف العذاب لا يتحدث عنه بالتشبيه أو المجاز، بل يتحدث بكلام قطعي على أنه شديد العقاب.

لقد علمنا من الكتاب أن الجنة لها ثمن، وثمنها التقوى، ولله عز وجل حق في التقوى، أي نتقيه بما يستحقه عز وجل، وليس أي تقوى، يقول عز وجل :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ آل عمران (102)

ولا يمكن لتلك التقوى أن تصل لحق الله إلا بمعرفة الله، ومعرفته تأتي بمعرفة الكتاب والتأمل في الحقائق التي يتحدث فيها عن الله عز وجل، لذا لابد وأن نتأمل في تلك الآيات التي تعرض قدرة الله عز وجل.

التأمل

لن نسعى للاقتراب من أحد إلا إذا عرفنا قدره ومكانته وإمكاناته، وحتى نعرف قدر الله عز وجل علينا أن نقف أمام هذا الملكوت العظيم لنتفكر فيه، ونقارن بين هذا الملكوت وبين أنفسنا وأجسادنا الصغيرة الضعيفة

﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا ۝ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ۝ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ۝ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ۝ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ۝ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ۝ مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ﴾ النازعات (27) - (33)

التأمل في تلكم الأشياء يجعلنا نحدد قدر الله حق قدره، ثم بعد التأمل يذهب بنا التفكير في المصير الذي ينتظرنا وعليه نأخذ قرارنا في الطريق نحو الله عز وجل.

﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ ﴾ (95)

ما معنى أنه فالق الحب والنوى؟ وما قيمة فلق الحب والنوى؟ لو تأملنا في ذلك لوجدنا أننا نأكل من نتاج ذلك الفلق، لولا أن الله عز وجل فلق الحب والنوى لما أكلنا من شتى الثمار والأطعمة التي نراها في كل أسواق الفواكه والخضار والثمار المتنوعة، هو سبحانه وتعالى، هو المتحكم في أصل الحركة المولدة لكل تلك العطاءات والثمار المنوعة.

أنزل من السماء ماءً

الماء هو مادة الحياة:

﴿ أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ الأنبياء (30)

هل تأملنا في إنزال المطر الذي يتحدث عنه القرآن على الدوام؟ إن التأمل في موضوع الماء المنزل من السماء يقود إلى الإيمان "أفلا يؤمنون"؟ الله عز وجل يمنّ علينا ويقول أنا مُنزل الماء من السماء، يُبين لنا أنه هو الذي يحوّل لنا أطنانًا من الماء سنويًا من مياه مالحة غير صالحة للشرب إلى مياه عذبة قابلة للشرب ويستفاد منها للزراعة والأنعام، والخوف من عدم نزول الأمطار كان ينتاب الأولين حيث كانوا يشعرون بارتباطهم الوثيق بهذه النعمة، لكننا في هذا الزمان لا نشعره، لقد كان الناس يصلّون من أجل نزول الماء، فنزول الماء يعني الحياة وانقطاعه يعني انقطاع الحياة.

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ۝ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ۝ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ﴾ الواقعة (68)-(70)

انظر إلى الماء الذي تشربه، تأمل فيه، وتساءل من الذي نقاه ؟! وتأمل كيف سيكون الحال لو كان هذا الماء الذي نشربه إجاجًا؟

النباتات

لقد أنزل سبحانه من السماء لنا ماءًا، ولو لم يكن هناك ماء لم تكن حياة، كل المأكولات الرئيسية والثانوية منها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المياه؟ ولنا أن نتأمل كم من الماء تحتاج كل تلك المأكولات للفرد الواحد من النباتات التي يتغذى عليها الإنسان ولاينفك عن احتياجه لها بشكل يومي، مثل الأرز أو ما شابه ؟ نزل الله عز وجل الماء من أجل أن يُنبت الأنواع المختلفة من الزراعات وحتى نتمتع نحن والأنعام بالأكل منها.

﴿ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ۝ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ۝ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ۝ مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ﴾ النازعات (30)- (33)

ولنا أن نتخيل المأكولات التي نأكلها وطريقة صناعتها، وكم تحتاج من كميات عالية من المياه؟ نحن لا نملك الماء العذب، والله ينزله بكميات كبيرة جدًا، بعد أن يصفيه من الملوحة العالية من محيطات البحار في دورة طبيعية ضخمة جدًا، ثم ينزله من السماء ثم يجري في مجاري الأودية والأنهار، ومن رحمته عز وجل أنه جعل الأنهار جارية حتى لاتتعفن.

هناك الكثير من النعم التي تأخذ الألباب حين يتأمل فيها الإنسان، والقرآن الكريم يحث الإنسان من أجل أن يخوض غمار ذلك التفكير حتى يستشعر قيمة كل شيء من حوله، ثم يربط ذلك بقدرة الله ومكانته، ومن تلك الأشياء التي يأمرنا التأمل فيها هي التأمل في الطعام :

﴿ فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ۝ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ۝ ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً ۝ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ۝ وَعِنَباً وَقَضْباً ۝ وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ۝ وَحَدَائِقَ غُلْباً ۝ وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ۝ مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ﴾ عبس (24)-(32)

نحن نعيش في خطوط انتاج معيشية تدار بالغيب ولكن لا نبصرها، وهذا يتطلب منا شيء من التفكر والتأمل، فعندما يوضع الطعام أمامك، تفكر كيف وصل إليك؟ ماهي الخطوات التي مر بها حتى وصل إليك بهذه الكيفية وهذا الكمال والجمال؟ تفكر .. ماذا فعل سبحانه حتى يطعمنا ويهيء لنا معيشة متكاملة؟ وكم هي الأيدي العاملة التي عملت من أجل أن تُنبت هذا الزرع ثم توصله إلينا ثم لكي نأكله؟ أنزل الله الماء من السماء، ثم أنبت الزرع، ثم خصص أحدًا لزراعته وآخر لنقله وثالث لبيعه، ومر بخطوات حتى وصل إليك ليوضع أمامك على مائدة الطعام.

الأنعام

من ناحية أخرى هل تفكرنا في اللحم الذي نأكله؟ فالأنعام مخلوق من المخلوقات، ولكن في هذا المخلوق ميزات تجعله ممسوك لنا، هي حيوانات يمكن للإنسان أن يربيها لينتفع منها فهي ممسوكة لنا وهذه حالة مستثناة عن بقية الحيوانات، وهي مخلوقة بهذه الميزات من أجل الانتفاع، يشرب من حليبها وينتفع من صوفها ووبرها ثم يذبحها ليأكل منها، وهذه كرامة امتاز بها الإنسان، فهل يصح أن نأكل بدون إحساس وبدون أن نستشعر تلك النعم، علينا أن نعود بذلك الإحساس بالحمد والشكر للمنعم الخالق العظيم الذي كرم الإنسان بهذه الكرامة.

﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ الزمر (6)

الممتلكات

القرآن يخاطب المؤمن: لا تتصور أن المال مالك، أو أن البيت بيتك أو أن الملابس ملابسك، كل شيء هو ملك لله عز وجل، وكل شيء هو بإرادته وبقوته "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" :

﴿ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً ﴾ الكهف(39)

هذه آية مقطع من قصة صاحب الجنة في سورة الكهف، وصاحب الجنة اغتر بممتلكاته وبدأ يشعر أنه يملك تلك الجنة ومافيها ، فقال له صاحبه واعظًا له، عليك أن تنزع ذلك الإحساس من قلبك، لا تدخل جنتك وأنت تشعر أنها ملكك، بل أَرجع ملكيتها لله عز وجل، وما أنت إلا مبتلى بهذا الملك، قل "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" وأدخل في قلبك معاني هذه الكلمة.

نعلم ما أصاب صاحب الجنة في نفس الآيات حيث أن الله نزع ملكه وأذهب جنته في طرفة عين، حتى يعلم يقينًا أنه لا يملك شيء في الأصل، وهكذا يجب أن نتعلم عندما ندخل المنزل أو نركب السيارة، ونلبس الملابس، في كل حركة وفي كل شأن "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" ، فذاك حق الله وهو أن نذكره طوال اليوم فهو صاحب الملك مع هذه القوة والقرب منه فوز عظيم.